انتهت (نور) تواً من أعمال المنزل, ودخلت الحمام لكي تأخذ دشً وتنزل كل ما علق بها من أعباء اليوم من طبخ وكي وتنظيف, ففتحت الدش ودعته ينساب عليها وأغمضت عيناها وأوقفت عقلها عن التفكير, دعوة منها لجسدها للاسترخاء, وما أن انتهت ذهبت إلي المطبخ لكي تعد كوباً من القهوة الساخنة فهي تعشق القهوة, فهي مصدراَ من مصادر سعادتها وأيضاً إلهامها, أحضرت الكنكة ووضعت اللبن لكي يسخن, ثم أحضرت كوبها الأحمر الخاص بها, فهي لا تحب أن تشرب في غيره فهي تتعلق بحب الأشياء لدرجة كبيرة, ووضعت به السكر والقهوة و ظلت تذوب القهوة والسكر معاً وظلت تفكر في الرواية التي بدأتها وكيف سوف تتصارع أحداثها؟! فابتسمت وقالت محدثتاً نفسها:
- دايماً أفكر في الحاجة قبل ما أكتبها مليون مرة, ووقت ما أيدي تمسك القلم أكتب حاجة تانية خالص.
قطع حديثها لنفسها صوت غليان اللبن, فأسرعت وأطفأته قبل أن يفور, ثم سكبته في كوبها وأمسكته بكلاتا يديها لكي تدفئ, ثم ذهبت إلي حجرتها, وجلست علي مكتبها بجسدها الضئيل وكأن المكتب احتضنها, فهي تشعر أنه مكان أنسها ودفئ قلبها.
رشفت رشفة من القهوة ثم لفت بالكرسي وعينها معلقتين بسقف الحجرة وكأنها تناجيه لكي يلهمها بأفكار لتكملة روايتها, ثم جذب أفكارها فاجأتناً صوت نقر الأمطار علي شباكها, فلم تقطع أفكارها بل بالعكس أسرعت لكي تفتح الشباك فمنظر المطر ورائحة الطين المبللة والشوارع وهي ممتلئة بالأمطار ومنظر الناس وهم يسرعون لكي لا تبللهم الأمطار, والهدوء الذي يملأ الشوارع, كل هذا جعل أفكارها تغزو عقلها وتمسك بقلمها وورقتها, وما أن استشفت عبيره; الأفكار بدأت تنهل عليها مثلما ينهل المطر علي الطين, وما أن توقف المطر, توقفت عن الكتابة ثم قالت:
- ليه وقفتي؟! يا مصدر من مصادر ألهمي..
ثم أغلقت الشباك ودخلت وعينها وقعت علي مجموعة قصصية لكاتبها بل تعتبره معلمها وأبيها الروحي بل والحقيقي, فهي اتحرمت منذ الطفولة من حنان الأب, لم يعرف قلبها إحساس الأبوة إلا مع كاتبها, تحركت يدها بنعومة إلى الكتاب وكأن بنت وجدت أبوها بعد فترة من الزمن واشتقت أن تحضنه, وما أن وصلت يديها إليه جذبت الكتاب سريعاً, ثم تحسست صورته التي كانت غلاف كتابه ثم فتحته وقرأت جزء منه, فبكيت وسرعان ما أغلقت الكتاب أحضنته وقالت وصوتها يرتعش:
- ياريتك كنت عايش لحد دلوقتي..كنت هتعلم منك كتير..اللي مصبرني هو كتبك.. كل ما أقراها بحس أن طيفك حوليا..أنا متأكده أنك لو كنت عايش لحد دلوقتي كنت هتشجعني..كتاب زمان كانوا بيقدروا الموهوبين مش زي دوقتي ما بيقروش ولا بيشجعوا الموهوبين..
ثم قطع صوتها صوت جرس موبايلها فنظرت إليه فوجدتها والدته فرديت عليها قائلة:
- آلو..
- بتعملي أيه؟
- بكتب روايتي..
- سيبك من الكتابة شوية.. في مسلسل حلو أوي..
- ماما..بكتب
- ده البطله أموره خالص و...
لم تسمع تكملة كلام والدتها فعقلها الباطن جذبها بسرعة تفوق سرعة القطر 20 سنه للوراء, وهي طفلة جالسة علي علي مكتبها الصغير وممسكه بقلمها وكراستها وتكتب قصة مفعمة بإحساس الطفولة, النقية, الحقيقية, فالكتابة حلمها وخيالها التي بتهرب به من طفولتها المعذبة, تشعر وهي تكتب كأن روحها أصبحت في عالم تاني, عالم لا يوجد به مشاكل وعذاب..دائماً كانت تري أن عالم الكتابة هو عالم طفولتها..
وبعد أن انتهت من قصتها ابتسمت وجريت في جميع أرجاء المنزل باحثتاً عن ولدتها لكي تقرأها, فنادت :
- ماما..أنتي فين؟!
- في المطبخ..
- أنا كتبت قصة..ممكن أقر هلك..
- أقري ..
قالتها وهي تقشر البطاطس, فطلعت بركبتيها الصغيرتين علي كرسي الآمال فلقد كانت سعيدة إن والدتها سوف تسمعها, وأمسكت الورقة وبدأت تقرأ وتهز رأسها من فرحتها, ثم رفعت بصرها لكي تري ملامح وجه والدتها فوجدتها لم تتأثر ولم تسمع لحرفاً واحداً, فنظرت إلي ورقتها مرة أخري وعيونها ترقرقت بالدموع, ثم نزلت من علي الكرسي وقبل أن تخرج من المطبخ نظرت إلي أمها مرة أخري وجدتها تضع البطاطس في الحلة ولم تلاحظ أنها توقفت عن القراءة, فجريت إلي حجرتها وارتمت بجسدها الضئيل إلى سريرها ودفنت رأسها في مخدتها, وأخذت تبكي, وشعرت كأن السرير حضنها وقماشه يمتص دموعها ويجففهما..
وصوت والدتها نزعها في لحظة من طفولتها وقالت:
- نور أنتي معيه؟!
- ايوا يماما..مضطر اقفل دلوقتي..سلام
- سلام
وماأن أغلقت تليفونها جريت علي السرير كما فعلت وهي صغيرة وبكيت وظلت تصرخ وتقول بصوت يملأها الكرب:
- ليه أهالينا بيموتوا فينا حلمنا! ليه بيموتوا فينا موهبتنا! ليه مش مؤمنين بينا! أمال أيه الفرق بينا وبين الحيوان! ربنا كرم الإنسان وخلقه بيحلم وبيفكر وبيتخيل..
ثم جريت وفتحت شباك حجرتها ونظرت إلي السماء بنظرة مليئة بالحزن والأمل في الله وقالت:
- يارب..نجحني, يارب أنت اللي عالم أد أيه أنا نفسي أنجح! اهلي مش مؤمنين بيه, مش مقدرين قيمتي, دايماً اتكلم عن حلمي يضحكوا ويقولولي سيبك من تمئيأت العين واتفرجي علي التلفزيون..
وقطع كلامها يد زوجها وهو يطبطب عليها ويقول لها:
- أنا مؤمن بيكي ومتأكد أني هتنجحي..وعشان تصدقي أني مؤمن بيكي, جبتلك هدية..
فألتفت بهدوء ودموعها تنهمر من عيونها وكأنها تبكي علي سنين ضاعت من عمرها لم تنمي فيها موهبتها ثم قالت:
- يا حبيبي..أنا لولك عمري ما كنت رجعت لموهبتي تاني..
ثم نظرت إلي يديه وجدته ممسكاً بكتاب أديبها المفضل, ففتحت عينيها علي أخرها وكأن عينها تريد أن تملأ نفسها بصورته وبأسم كتابه, فمسحت عيونها لكي تتأكد, وابتسمت وخطفت الكتاب وأخذت تقلبه بين كفيها وقالت والفرح تملأ قلبها وعيونها تتضحك:
- ألف شكرا ليك يا حبيبي..أنا سعيده جداً! مهما وصفتلك عن فرحتي مش هعرف أقول..
- أنا عارف فرحتك أزاي! لأنك بتعتبريه معلمك وأبوكي الروحي وأول إنسان حط جوا قلبك بصمة ..بس عاوز أقولك علي حاجة, لازم تحافظي علي روح أحلامك..
فنظرت إليه بكل استغراب ثم قالت:
- هي الأحلام ليها روح؟!
- طبعاً, الأحلام هي روح عايشه جواكي..كل ما أهتمي بيها وسعيتي لتحقيقها هتفضل عايشه..وكل ماأهملتيها واستسلمتِ للسلبيات ساعتها هتكوني سمحتي أنك تقتلي روحك بنفسك..لازمي تعرفي انك حره: حره في تفكيرك, في أحلامك, في خيالك مادام ما بيتعارضش مع الأخلاق والقيم..
شعرت (نور) بعد أن سمعت كلام زوجها بأنها تحررت من كلام والدتها فا ابتسمت ثم نظرت إلي الكتاب وضمته إلي حضنها وشعرت أن روح معلمها اخترقت روح أحلامها وكأن هو أيضاً يطلب منها التحرر من قيود الناس من أجل بقاء روح أحلامها علي قيد الحياة, فهي بدون أحلامها سوف تكون إنسانة ميتة مجرده من أوكسجين الحياة وقامت سريعا وكأن روح معًلمها أنعشت روح أحلامها وأخذت تلف وتضحك وظلت تقول:
- روح أحلامي مش هسمح لحد يموتها لأني حره..حره أحلم.. حره أتخيل..حره أفكر..لأني إنسانه..مش حيوانة.