عطر الأحباب

لكل كاتب عطره الخاص، نستنشقه من خلال كتاباته، فتعبر كلماته إلى قلوبنا، فندمن هذا العطر، أنه عطر الأحباب!

27 فبراير 2013

عطر ودفئ!






اشتاق إلي أشياء كثيرة..

اشتاق إلي احتضانهم.. فكل شئ اشتاق له يملك حضناً دافئ وعطراً خاص به!

اشتاق إلي (يوم الجمعة ) بكل شئ فيه يميزه عن سائر الأيام، وكأنه يمتلك ( صك ملكية) من صوت القرآن الكربم   الذي يجلي من القلوب الحزن والهم و جلايب الرجال  ناصعة البياض الذي يفوح منها رائحة المسك ، والأطفال الذي يزينوا الطرقات بضحكاتهم و بأنفاسهم المتقطعة من كثرة اللعب،  وعطر البخور المتصاعد من  المنازل و رائحة  الفول وقلي الطعمية والبطاطس ولا يحلوه بدون (حزمة الجرير) والجرنان!

اشتاق إلي المنازل التي كانت تفتح أبوابها وقت العصاري وتترك الأبواب مفتوحة وتخرج النساء ويكنسوا أمام منازلهم ثم يخرج الرجال ويرشون الماء فينبعث عطر عبيره يسحر أي إنسان، عبير المتطاير من احتضان الأرض للماء والذي كان يعطي وقت العصاري مذاق خاص به، ثم يضعون الكرسي الخشبي و شاي في الخمسينة ويقرأون الجرنان ويسلم عليهم كل من يمر بهم ويعزمون عليهم بكوب من الشاي! فيردون: الله يخليك.. بالهنا والشفا!

اشتاق إلي السير في الطرقات  فتجذبني ( رائحة الفيشار) المتصاعدة من عربة الفيشار فأذهب واشتري علبة من الفيشار واتفرج علي المحلات بنظرات طفلة مشتاقة لهذا وذاك، وأشاهد الناس وأتابعهم بنظرات مختلسه، ليس فضولاً مني ولكن لكي أؤنس بهم، وأشعر معهم بالأمان!

اشتاق إلي ( جدي) اشتاق لعطره فلقد كان يمتلك عطراً  خاص به, كلما اقتربت منه استنشقها بقوة لكي أشعر بدفئه بداخلي، اشتاق لكل تفاصيله، اشتاق إلي مناديله القماش المكوية المطبقة والمعطره(بكولونيا خمس خمسات)، اشتاق أن اسمع معه صوت عبد الباسط عبد الصمد وهو يتلو القرآن الكريم.. مازلت ياجدي كلما سمعته ترد روحك بداخلي فتصهر روحي وأشعر بعطرك يفوح من حولي!

اشتاق إلي ( صديقة) تكون صادقة معي وأن تعتني بصداقتنا، وعندما نفرح بل في لحظة الفرح ذاتها ترتجف قلوبنا و نبحث عن التليفون  ولا نراها من ربكة الفرحة ونظل نبحث عنه لكي نتصل ببعض ونخبر بعض لكي تكتمل فرحتنا، لا نكذب علي بعض ولا نخاف من بعض ولا نخشي من الحسد، فقلوبنا لا تفرح بدوننا، وأن نتقاسم الحزن ونخفف عن بعض وأن نخرج سوياً في الطرقات لكي يكون شاهد علينا في الفرح وفي الحزن،  ونتقاسم مع بعض مانحبه من قهوة وكيك ، فرائحتهما دائماً تذكرنا بأول لقاء جمعنا،  وضحكات تنفجر من قلوبنا من سخونة المشروبات التي تلسع ألسنتنا، ودموع تسيل من أعيوننا من قوة الضحك علي بعض بسبب رغوة الكابتشينوه المرتسمة علي شفهانا!

اشتاق إلي ( طفل) اشتري له الملابس والألعاب وكل شئ حرمت منه بل سلب ، وأتعامل معه بطبيعتي فيفهمني ولا يستغربني، ويحبني ولا ينافقني، ونفرح سوياً ونحزن سوياً، كلما عانقني أشعر بالأمان أكثر والدفئ أكثر، والابتسامة منه تجلي همي وحزني الذي ينهشون في قلبي من سنين!

اشتاق إلي صوت ( فريد الأطرش) في الدكاكين الصغيرة، دكاكين  يباع فيها السجائر  والحلويات ويقف بها ( عجائز) يفوح منهم عطر مليء بالبركات، لسانهم مسك فبمجرد أن تقف معهم، ينطلق من ألسانتهم ( أدعية لك بأن الله يوسع لك رزقك ويحفظك من كل شر) فبمجرد أن تسمع هذا تشعر بالسكينة في قلبك!

اشتاق إلي صوت ( عبد الوهاب) فعندما كنت صغيرة كنت أحب أن أسمع أغنية:

 بفكر في اللي ناسيني وبانسى اللي فاكرني
وبَهرَب م اللي شاريني وبَدوَّر ع اللي بايعني

وادوَّر ليه على جرحي وصاحب الجرح مش فاكر
واقول يا عين ليه تبكي ما دام الليل ما لهش آخر


 في الراديو وأنا أتتدلي بجسمي الصغيرة من سور البلكونة، كانت الفرحة تتراقص أمام عيناي، وكنت أشعر بأن الدنيا أصبحت أجمل ولكل شئ عطراً ودفئاً فاستنشق عطر  البيوت والطرقات والأشجار، والدفئ يتصاعد من كل شئ أكاد أري دخانه بل وأشعر بسخونته!

اشتاق إلي ( سندوتش البطاطس) الذي كنت أخذه في المدرسة، وأظل انتظر ( الفسحة) بفارغ الصبر لكي أكله، ولكن هيهات فرائحته كانت تجعلني أجن وأفتح الشنطة وأخذ أصابع البطاطس وأضعها سريعاً في فمي قبل أن يراني المدرس!

اشتاق إلي السفرة، التي كانت تجمعنا  ورائحة الطعام التي تجعل لكل وجبة دفئها الخاص بها,  فوجبة الفطور يميزها رائحة البيض المقلي واللبن المغلي والخبز الساخن  ووجبة الغداء من رائحة الملوخية والفراخ المقلية ووجبة العشاء من رائحة الفينو الساخنة والجبنة القديمة، فالحب والود كان يشع من قلوبنا كأشعة الشمس فتدفئنا فنتحدث ونتضحك ونطمئن علي أحوال بعض!

اشتاق إلي أن أرسم في كراسة الرسم وألون، فكم كنت سعيدة عندما كنت أشاهد رسومتي وخصوصاً شهر رمضان كنت أحب أن أرسم الرجل الذي يصنع القطايف وعربة الفول!

اشتاق إلي صوت ( عم مغاوري) الذي كان يغني كل ليلة ( للزبادي) وماأجمله زبادي! فلقد كان ناصع البياض وطازجاً وعطراً  برائحة اللبن  مثل الأيام التي كنا نعيش فيها!

اشتاق إلي صوت( عم بربري) المسحراتي، اشتاق عندما كان ينادي بإسمي، فكنت أشعر بأن رمضان لا يحلو بدون صوته وصوت ( طبلته) الرنانة التي كانت تولد الفرح من قلبي وتجذب الابتسامة من شفتاي!

اشتاق إلي قصصي التي كتبتها يوماً وأنا صغيرة، اشتاق أن استنشقها، استنشق عبير طفولتي، عبير أول محاولاتي في الكتابة، وأن احتضن اللحظات الأولي في ميلاد حروفي!

اشتاق إلي ( عيد الأم) وأغنية سعاد حسني التي عندما كنت اسمعها أبكي واحتضن أمي لكي أشعر بحبها وحنانها ودفئ قلبها, و(علبة الهدايا  الشفافة )التي كانت  منتشره في هدا الوقت والتي كانت بها مناديل من القماش منقوش بالزهور الصغيرة وزجاجة عطر صغيرة ( فام شيك)  وشريطة من السولفان تزين العلبة!



اشتاق إلي  كشاكيل ماركة الشمرلي ( المنقوش علي معظمها طفلاً ) وإلي عطر الورق المنبعث من كشاكيلي الجديدة ورائحة الحبر المتصاعدة  من كتبتي في أول صفحة( بسم الله الرحمن الرحيم)

اشتاق إلي أيام مضت،،

سأظل اشتاق واشتاق واشتاق ..
وماهو الاشتياق إلا  تعبيراً عن الفقدان..

نعم أنني اشتاق لأني افتقد لكل شئ كتبته..

افتقد عطرالحياة.. ودفئ الإنسانية!

افتقد الحب والصدق والأخوة والنقاء..
اشتاق إلي معاني كادت أن تنقرض.. لأن ليس لها ( محمية طبيعية) تحميها من أن تنقرض وتضيع!

وما الفقد إلا تعبيراً عن الضياع!

أشعر بالفقد .. أشعر بالحزن أحاول مجاهده أن أتمسك بإنسانيتي.. الناس يحاولون أن يقنعوني بأن لم يعد هناك ( مفاهيم الإنسانية) ولم يعد هناك صداقة بالمعني المفهوم ولم يعد هناك حب بالمعني المفهوم ولم يعد ولم يعد.. 

أشعر بالضياع .. أشعر بالجنون أتطلبون مني أن أضيع وأضيع من ماذا من إنسانيتي؟! 

وإذا تخليت عنها ماذا سوف أصبح حينها؟! أتطلبون مني أن أتحول إلي وحشاً كاسر! لا يشعر ولا يحب ولا أي شئ!

اشتاق فأفتقد ولكن لن أضيع سأتمسك بمفاهيمي بقلبي بإنسانيتي..



لن أكون كبقية القطيع بدون مفاهيم وينقصني البرسيم!

عرفت الآن لماذا الوحدة ملاذي ورفيقة دربي!

لأن فيها أجد معني لإنسانيتي!

لن أكون إلا إنسانة!

تمتلك عطراً ودفئ خاص بها وبإنسانيتها!

18 فبراير 2013

نوته وقلم!






التواريخ هي أيامك وهي عمرك وهو جزء من وجودك، فالتاريخ  فصيح اللسان يعبر عن الفرح أو الحزن وقد يعبر عن الأثنين معاً، فيحمل في كيانه أحداث سعيدة وأخري تعيسة، قد تكون سعادة بمعرفتك شخص وقد تكون خذلانك في معرفة شخص، قد تكون سعادة بتقربك من الله وقد تكون تعاسة لبعدك عنه، قد تكون سعادة بأن هناك من بحبك ويهديك ويفاجئ بأحلي المفاجأت وهناك من يحقد عليك فيأتي ويسلب منك السعادة، قد تكون بميلاد طفل ووفاة إنسان وكل هذه الأشياء تتلخص في الميلاد والوفاة!



ميلاد الفرحة ووفاتها  فيولد الحزن ويتوفي ، يومنا يتلخص في كلمتين صغيرتين في الحروف  ولكن  كبيرة في المعني ( هم الميلاد والوفاة)، فيومنا قد يمر بأشياء تجعل الفرح تولد  في قلوبنا ليس المهم أنت تكون صغيرة أو كبيرة المهم هو: ماذا تعني لك؟! أذا عانت لك الكثير فبالتأكيد الفرحة لن تسعك!





وأحيانا تتوفي فرحتك أما بإرادتك أو دونها، وقد تحدثنا عنها وهم من بتربصون لك لكي يسلونك فرحتك والقرار لك في السماح أو الرفض، فالأمر كله يعود لك، وفي قيادة نفسك!



 ولكن أصعب الوفاة وهو دون إرادتك هو وفاة إنسان تحبه في حياتك، ليس بالشرط أن يكون قريباً منك أو تعرفه بل قد يكون بعيداً عنك  في المكان وفي الزمان ولا تعرفه معرفةً شخصية، قد يكون ولد قبلك وعاش في زمن غير زمنك وقد يكون عاش في جزء من زمنك، وتحبه حباً شديداً قد يكون هذا الحب نابعاً من بطولاته وقد يكون من أفعاله الخيره وقد يكون من شيم أخلاقه وقد يكون من كتاباته!



و أعلم أن  كل شئ يولد  سوف يتوفي، كل شئ سيفني  ولكن لا ينتهي،  طالما( تحييه الذكري) ذكري ميلاد وذكري وفاة وتشمل كل شئ في حياتك كما تحدثت سالفاً ولكن أخص بالذكر هنا هو ذكري ميلاد ( من تحب) وذكري وفاة ( من تحب)!



وفي أحياء الذكري هو ميلاد للفرحة، وحبك هو الذي يحيا الذكري وذلك بحرصك الشديد علي تسجيل التاريخ، وعدم مبالاتك هو الذي يميت الذكري وذلك بعدم اكتراثك بتسجيل التاريخ من الأساس! ولا تلقي اللوم علي الناس إنهم لم يذكروك، فإذا كنت تهتم فلماذا أذن تلقي أخطائك علي الآخرين!



حتي في ذكري الوفاة ففيه ميلاد للفرحة!  فبالرغم من الحزن الذي ينفجر بداخل قلبك إلا أن تذكرك دليل علي الحب ويجعلك تتذكر منه كل خير وتدعو له، ألا كل هذا يفرحك ويفرح من هو توفي!



وفي يومنا هذا التكنولوجيا سرقت من قلوب الناس الشغف بالتواريخ وأحياء ذكراها، سرقت من القلوب حلاوة الإحتفال بمن نحبهم سواء كانوا في حياتنا أو رحلوا ولكن مازالوا في قلوبنا، فعلي سبيل المثال ( الفيس بوك) يقوم بتذكيرك بميلاد أصدقائك، وعندما يتجرم بهذا الفعل فإنه يقتل جمال: أني تذكرتك صديقي! ففرحتي يوم ميلادي هو أنك تذكرتني ولم تنسني وبالتالي أنك تهتم بي وتحبني!



ولكن لا يوجد في الفيس بوك ذكري وفاة، ولكن يوجد في ( جوجل) وعزاءنا أنه يحيه الذكري بالكتابة عن مشوارهم!



أتتذكرون هذه النوتة التي كانت كل صفحة بلون وأحياناً تكون بيضاء ومطبوع بها الاسم والتليفون وعيد الميلاد ومرسوم بجوار كل منهم أيقونة تعبر عنه، كنت أحبها لأننا كنا نجتهد لكي نتذكر بعض ونفرح بعض بأبسط الأشياء، ففرحة الإنسان تكمن في أنك تتذكره دائماً ، فهذا يشعره بالحب منك وتجاهك!



ولذلك أصبحت أسجل التواريخ الذي تعني لي الكثير في نوتة صغيرة، كم أشعر بالسعادة عندما أفعل ذلك! وأصبحت أسجل كل ما تحمله التواريخ من ميلاد ووفاة، فأحياء الذكري هو  أحياء لقلوب مازالت حيه أو قلوب فارقت الحياة ولكنها مازالت حييه في قلوبنا!







أجعل دائماً في حياتك نوته وقلم وأحيه فيها ذكري ميلاد وذكري وفاة، لا تجعل الحياة تسرقك وتسرق منك الذكري، فتهمل من تحبهم وتنسهم وهم ينسوك!



وأحياء الذكري سواء الميلاد أو الوفاة ليس بالشئ الكبير أو الصعب، وله طرق كثيرة قد تكون بالدعاء وقد تكون بهدية وقد تكون بمكالمة تليفونية وقد تكون بذكري محاسن الشخص وقد تكون بتودد لمن يحبهم وقد تكون بكتاباته!




واليوم ١٨ نوفمبر هو( ذكري وفاة الشهيد يوسف السباعي) وسوف أحييه ذكراه بوضع قصة قصيرة له بإسم( الوطن المحتضر)







أداتهم اللسان .. وانتاجهم الكلام

قديرون بلسانهم على احقاق

الباطل وابطال الحق .. يدعون لأمر

وبلا خجل ولا استحياء يدعون لنقيضه









قال لى صاحبى متسائلا :-



-   ما بالك يا صاح تعيش فى الدنيا كأنك لست منها ؟

-   كيف ؟

-   أراك مغرقا فى أوهامك المعسولة .. ممعنا فى الكتابة عن الهوى والعشاق .. مرح الأحلام ، مترنم القلم ، شادى الفؤاد .. تغض الطرف عما حولك من مرير الحقائق والوقائع حتى ليخيل الى انك لا تعيش فى ارضنا هذه .. او انك ثمل لاتحس ولا تفيق .. او انك لست منا ولا يعنيك امرنا .



بل أحس وأشعر وأتألم .. ولكنى أغض الطرف أغضاءة يائس وأتعزى بمعسول الأوهام عن مر الحقائق .. إن كلمات النصح لن تغير ما بقومى ، بل ستزيد النواح نائحا ، والباكين باكيا !! ولخير لقومى من نوح باكى .. ترنم شاد .



-   بل نوح باك خير وأجدى .. فالنائح خير مذكر بالمصاب " وذكر اما أنت مذكر " .

-   أذكر قوما أحياء فى وطن حى .. أما الموتى فى وطن يحتضر فماذا يجدى معهم ؟

-   إلى هذا الحد أنت يائس .. أما عاد يرجى لهذا الوطن خير .. وما عاد يفيد اهله نصح ولا يردعهم نذير ؟

-   لا أظن .. حتى ولو فعلنا بهم ما فعل حكيم " الوطن الميت " بأهله .

-   حكيم الوطن الميت ؟ وماذا فعل هذا الحكيم باهله ؟

-   زعموا أنه كان فى قديم الزمان وسالف العصر والآوان حكيم يعيش فى بلدة عم فيها الفساد واستبد بأهلها الفقر والمسبغة والحرمان ، وانتشرت بها الأمراض والأوبئة ، وشاع فيها الجهل والتواكل والضعف ، وتلفت الحكيم حوله لعله يجد من أهل البلدة فئة صالحة تعينه على أن ينقذ الوطن مما تردى فيه ويصلح حاله ويقيل عثرته ، ولكنه لم يجد سوى الأعراض من القوى والتخاذل من الضعيف .. ووجد سوس الفساد قد نخر فيهم جميعا .. فما ترك أذنا تصغى أو ذهنا يعى .



تلفت الى الحكام ، فاذا بهم فى شغل عن مصالح وطنهم بالعراك على حكمه والتسابق الى امتطاء صهوته ، والتدافع الى جنى ثمار سلطانه ، فلا يكادون يتربعون على دست الحكم حتى يذل الحرص أعناقهم ويغشى أبصارهم ويصم آذانهم ويضعف ذاكرتهم .. فهم لا يبصرون ما كانوا يبصرونه ، ولا يسمعون ما كانوا يقولونه .. واذا بجهودهم قد تركزت فى التشبث بأعناق الحكم والالتصاق بصهوته .



مختلفون والهدف واحد .. مقتتلون والأمانى مشتركة .. يتهم كل منهم الآخر بما هو فيه ، ويعيب كل منهم على صاحبه ما سبق أن أتاه .



يعلنون ما لا يبطنون .. ويقولون ما لا يفعلون .. يدعون التسابق الى مصلحة البلد وهم الى مصالحهم أسبق .. ويدعون الحرص على انقاذ الفقير والعامل والفلاح وهم على ثراوتهم أحرص .



يطالبون بالحرية .. اذا ما أفادتهم الحرية .. ويقتلونها اذا ما كشفت عن سوءاتهم .

أداتهم اللسان .. وانتاجهم الكلام .. قديرون بلسانهم على احقاق الباطل وابطال الحق .. يدعون لأمر ، وبلا خجل ولا أستحياء يدعون لنقيضه .



وتلفت الى العلماء و رجال الدين .. فاذا بهم اتباع جبناء أشبه بشرأبة الخرج .. سائرون فى مواكب الحكام .. محرقين البخور تحت أقدامهم .. فهم موظفون ميرى .. يحرصون على عيشهم أكثر من حرصهم على الدين .. قانعين راضين .. لا يثورون الا بأمر الحكام ، ولا يغضبون الا بأشارة منهم ، ولا يميزون بين الرذيلة والفضيلة الا بأعينهم .. فهم أسبق لنيل رضاء الحكام من نيل رضاء الله .



وتلفت الى الشباب فاذا به رفيع مخنث .. قليل الصلابة ضعيف الاحتمال ، لا صبر له على المكاره ولا جلد على المشاق .



والى الكتاب فاذا بهم أنانيون نفعيون منافقون .. لايحركون أقلامهم الا للاستجداء .. استجداء الحكام أو الجماهير .

والى الشعب فاذا به متخاذل متكاسل مغرق فى القذارة .. قذارة الخلق والجسد والثياب والدار .



وهكذا لم يجد الحكيم من حوله معينا .. بل كان الكل عونا فى الانهيار والتدهور وحليفا للعدو المثلث " الفقر والمرض والجهل " 



وفى ذات يوم روع الناس بالحكيم يعدو فى الطرقات باكيا مولولا وقد شق ثيابه ، ولطم خديه ، وأخذ يصيح مستنجدا :



-   آه .. آه .. الى الى النجدة النجدة المعونة المعونة .. الغوث الغوث .



وأقبل الناس عليه يسألونه فى فزع وارتياع :



-   ماذا بك ؟ ماذا أصابك ؟ قل .. أنطق .



واستمر الرجل فى عويله وبكائه حتى تكاكأت عليه البلدة وهو ممعن فى الصراخ والنواح ، وأخيرا نجحوا فى تهدئته .. وأخذوا يسألونه فى الحاح :



- قل لنا ماذا بك ؟ ماذا حدث أيها الشيخ العادل الحكيم ؟

-   انه يموت .. انه يحتضر .. أدركوه ، أغيثوه . 

-   من هو ؟ من تعنى ؟ 

-   الوطن ! الوطن يحتضر ..انه يلفظ آخر أنفاسه ... ان لم تنجدوه فعليه العفاء !! 



وضج القوم بالضحك .. وهتفوا ساخرين : 



-   لقد جن الشيخ !



ثم صاحوا :



-   عد الى بيتك واياك أن تقلقنا بمثل هذه الخزعبلات . أى وطن هذا الذى يحتضر ؟ أكل هذا الصراخ والبكاء لأجل هذه الأكذوبة .. والله لو عدت لمثلها أيها المخرف لجلدناك على سور البلدة .



وعاد الشيخ الى بيته باكيا حزينا وهو ما زال يصيح : 



-   آه .. آه .. الوطن يموت .. الوطن يحتضر ، أما من منجد ؟ ألا من مغيث ؟ 

و تفرق أهل البلدة وعاد كل منهم الى عمله وهم يتندرون بالحادثة ويروون خبر جنون حكيم البلدة .



وفى اليوم التالى فوجىء القوم بالحكيم يعدو فى الطرقات مرة أخرى .. وقد اشتد بكاؤه وعلا نواحه وأخذ يصيح بصوت ملؤه الحزن والأسى : 



-   آه .. واحسرتاه .. واضيعتاه .. لقد مات الوطن ! لقد قتل شر قتلة .. واغتيل شر اغتيال .. أمسكوا القاتل . اقبضوا عليه 

لا تدعوه يفلت .. لابد من عقابه .. لقد قتل الوطن .. ولابد من الثأر له .. أمسكوا القاتل .. آه .. آه



دعوه يذهب لدفنه ولا تعطلوه .. قل لنا : متى ستدفن الوطن حتى نسير فى جنازته ؟ وفى أى قبر ؟



وصاح الحكيم :

-   ليس المهم دفنه .. المهم هو أن نقبض على القاتل .. أجل .. لابد من البحث عنه والعثور عليه وشنقه فى ساحة البلدة 

وهكذا انطلق الرجل فى البلدة يهيم على وجهه باحثا عن قاتل الوطن .. واعتاد الناس أن يبصروه فى كل يوم فى الطرقات وهو يصيح : 



-   القاتل الشرير .. سأقبض عليه .. لن يفلت منى .. سأنتقم للوطن .. سأردى القاتل وأمثل به وأعذبه عذابا لم يعذبه أحد 

ومضت بضعة أيام دون أن يبصر أحد من الناس للحكيم وجها ولم يعد يراه أحد يهيم فى الطرقات .. وأخذ الناس يتساءلون عن مصيره .. فمن قائل أنه هجر البلد .. زمن قائل أنه قد مات .. حتى فوجىء الناس به ذات يوم وقد أقبل يعدو فى الطرقات وهو يثب فرحا ويرقص طربا ويصفق بيديه صائحا :





-   أيها الناس أبشروا .. لقد وجدته .. لقد عثرت عليه .. القاتل الشرير .. لقد أمسكت بتلابيبه وضيقت عليه الخناق ولم أمكنه من الفرار .

وبضربة واحدة انتقمت للوطن شر انتقام . لقد ثأرت لكم منه وقتلته شر قتلة .. لم أتوان عن ذلك لحظة واحدة خشية أن يتمكن من الفرار ويعاود فعلته .. انه مغامر شرير لا خلق له ولا كرامة ..انه مجرم سافل كذاب محتال .



واستمر القوم فى ضحكهم على الشيخ حتى صاح بهم رجل : 

-   من يدرى ! قد يكون الشيخ المجنون قتل انسانا كما يقول .. وقد يكون القتيل راح ضحية جنونه .



وأجابه آخر :

-   لا تخف .. إن الرجل واهم .. إنه لا يجسر على قتل نملة .



وصاح الرجل مؤكدا :



-   بل قتلته شر قتلة .. وليس أسهل على من أن أثبت لكم ذلك .. لقد قتلته ووضعت جثته فى تابوت داخل البيت .. ويستطيع أى انسان منكم أن يأتى بنفسه ليشاهد قاتل الوطن قبل أن أواريه التراب .. انه عدوكم جميعا ولا بد لكم أن تمتعوا أبصاركم بمشاهدة جثته مسجاة فى النعش .. هيا يا قوم ولاتترددوا .

وسرى الخبر فى البلدة سريان البرق .. وبلغ من بها من حكام وأهل علم ودين .. وعرف كل منهم أن الشيخ قد قتل قاتل الوطن وأنه وضعه فى تابوت فى بيته وأنه على استعدادلأن يريه لكل من يريد رؤيته .



وثار فى نفوس القوم حب الاستطلاع وصمم كل منهم على أن يرى جثة قاتل الوطن .. وبين عشية وضحاها كان أهل البلدة صغيرها وكبيرها وقفوا بباب الرجل يتزاحمون على رؤية القتيل القاتل .



ووقف الحكيم يصيح بهم : 

-   مهلا .. مهلا ما هذا التزاحم والضجيج ؟ قفوا صفوفا متراصة بعضكم وراء البعض .. سأريه لكم واحدا واحدا .. لن يحرم من رؤيته أحد .. ولكن لابد من النظام حتى تستطيعوا رؤيته كلكم .. أجل .. قفوا هكذا صفا واحدا ..لقد وضعت الجثة فى النعش داخل هذه الحجرة وعليكم أن تدخلوا بنظام واحدا وراء الآخر .. وتلقوا على القتيل نظرة وهو راقد فى نعشه ثم تخرجون من باب الحجرة الآخر وتذهبون فى سبيلكم فاهمون ؟ 



صاح القوم : أجل .. أجل .. 



وبدأ الطابور فى التحرك .. ودلف القوم الى الحجرة واحدا بعد الآخر .. ولم تمض لحظة واحدة حتى أخذوا يظهرون من الباب الآخر خارجين من الحجرة بعد مرورهم بالنعش .



ونظر الناس المتراصون خارج الحجرة والذين لم يأت دورهم للدخول الى وجوه الخارجين الدين رأوا القتيل فأدهشهم ما علاها من وجوم واطراق وحزن واسف ، و أدهشهم قطرات العرق التى تتصبب منها ، وحاول بعضهم أن يسألهم عما رأوه وكيف وجدوا القتيل ومن هو ؟ ولكنهم لم ينبسوا ببنت شفة فقد كانوا ذاهلين عما حولهم شاردى الأذهان زائغى الأبصار يتعثرون فى مشيتهم وقد استغرقوا فى الصمت وبدا عليهم سيما خجل شديد .



وهكذا استمر الناس يخرجون من الحجرة وقد علت سيماهم علامات الحزن والأسى والأسف وكسا وجهوهم ذلك المظهر العجيب الذاهل الشارد .



وأخيرا مروا جميعهم بالنعش ولم يبق فى البلدة كبير ولا صغير الا وأبصر القتيل .. وخرجوا جميعا لا ينبسون ببنت شفة ولا يجسر أحدهم على أن ينظر فى وجه الآخر .



ومرت الأيام فإذا بالأعجوبة تحدث ، واذا بالوطن الميت يحيا ، واذا بالحكام يتحدون ويزهدون فى مظاهر الحكم وينسون المصالح الشخصية ويخلصون فى تصرفاتهم ويهدفون الى منفعة الوطن .. وإذا الأغنياء يعطون الفقير ماله والمظلوم حقه . 



واذا برجال الدين يتخلفون عن ركاب الحكم ويتعالون بانفسهم ويتسامون فى تصرفاتهم ويعملون لوجه الله والدين والأخلاق لا لوجه الوظيفة وأكل العيش .



واذا الشباب الفاسد ينصلح ويرعوى ويشتد عوده ويصلب ويسير فى طريقه مؤديا عمله مخلصا لوطنه .



واذا الكتاب يصبحون غير مغرضين ولا أنانيين ويكتبون بما توحيه اليهم شجاعتهم ورأيهم دون أن يستجدوا أحدا .



واذا الشعب المتكاسل المتخاذل ينهض ويشتد وتزول من نفسه ومن جسده ومن ثيابه ومن داره القذارة التى لصقت به حتى أضحت شيئا منه .

واذا الركب كله يسير فى هدوء وسلام واطمئنان ... واذا بخيرات البلدة تكفى أهلها جميعا وتغمرهم بالهناء والنعيم .





وساد الصمت .. ورأيت صاحبى ينظر إلى فى دهشة ويقول متسائلا :



-   ولكن كيف حدث هذا ؟ ماذا رأى الناس فى التابوت حتى غيروا ما بنفوسهم ؟





-   لا شىء .. لا شىء ابدا .. لقد كان التابوت فارغا .. كل ما فعله الرجل هو انه ألصق بقاعه مرآة .. فكلما أطل فيه انسان أبصر فيه صورته . 





وعرف أنه قاتل الوطن .. وأنه بالجزء الذى يقوم به من الفساد فى حدود عمله قد قتل الوطن ، وأن الوطن لا يموت الا اذا تعاون بنوه كلهم على قتله .. كل بما يعمل من شر مهما ضؤل . فهو مسمار فى نعش الوطن .





وأطرق صاحبى برأسه مفكرا ثم قال بعد برهة :



-   من يرزقنا بحكيم مثل هذا يرينا قاتل وطنه ؟



-   لا فائدة .



-   لم ؟! 



-   سيطل كل منا فى النعش ويخرج رافع الرأس .. فاذا ما سألوه عمن رأى .. ادعى أنه أبصر صورة غيره .. 

نحن قوم متبجحون مدعون .. لا نخجل ولا نستحى .



تمــــــــــــــــــــــــت

no copy

no